فصل: مطلب ظهور الفساد في البر والبحر، والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر وعسى أن تكون لامته من بعده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب ظهور الفساد في البر والبحر، والبشارة لحضرة الرسول بالظفر والنصر وعسى أن تكون لامته من بعده:

قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسادُ في الْبَرّ وَالْبَحْر بما كَسَبَتْ أَيْدي النَّاس} من المعاصي فإن الناس صاروا يقدمون على المنكرات والفواحش وهم سائرون في البحر ولم يخشوا أن يرسل اللّه عليهم ريحّا فتغرقهم، كما أنهم يفعلون تلك الخبائث في البر ولم يخافوا أن يخسف اللّه بهم كما فعل بغيرهم، وقد كثر الحرق والقتل والنهب والسلب والزنى واللواطة والشرب والقمار فيهما معا، وقل الحياء، فلا حول ولا قوة إلا باللّه، اللهم أجرنا من غضبك ومن القحط فقد قلت بركات البر حتى إن الزرع لا يأتي بضعفه وبركات البحر حتى أن اللآلئ لا تكاد تدرك.
وما قيل إن فساد البر في مدن الصحراء، وفساد البحر في مدن السواحل، أو قلة مياه العيون، أو عدم إثبات الأرض، وخلو الأصداف، أو بقتل ابن آدم أخاه، وفي البحر بغصب الجلندي السفينة المار ذكرها في الآية 71 من سورة الكهف، وغير ذلك مما يضاهي هذا، فهو بعيد عن المعنى المراد بمناسبة هذه الآية، وإن تقييدها بمثل هذه المسائل مناف لظاهرها العام المطلق في كل فساد يقع في البحر.
وهؤلاء الذين يعيثون في الأرض فسادا في البر والبحر لا يهملهم اللّه، وقد أمهلهم {ليُذيقَهُمْ} جزاء {بَعْضَ الَّذي عَملُوا} مقدما معجلا {لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} 43 عن هذه الأعمال القبيحة، حتى إذا أصروا عليها عاقبهم عليها كلها في الآخرة غير عقاب الدنيا.
واعلم أنه لا يوجد في القرآن العظيم آية مبدوءة بالظاء غير هذه {قُلْ} يا سيد الرسل لقومك وغيرهم {سيرُوا في الْأَرْض فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقبَةُ الَّذينَ منْ قَبْلُ} وتفكروا في أطلال منازلهم وتدبروا كيفية إهلاكهم واسألوا عن أسبابها وإبقاء مساكنهم خاوية تعلموا أنه {كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْركينَ} 42 باللّه جاحدين حقوقه مثلكم، واعلموا أنكم إذا لم ترجعوا عما أنتم عليه يكون مصيركم مثلهم.
وأنت يا سيد الرسل لا يهمنّك تماديهم {فَأَقمْ وَجْهَكَ للدّين الْقَيّم} المعهود في الآية 30 المارة ولا تكرار، لأن في الأول لفظ حنيفا وإشارة إلى الدين الحنيف بأنه هو الدين القيم، وفي هذه القيم فقط الذي لا عوج فيه، والمعرفة إذا أعيدت يراد منها الأولى نفسها كما أوضحناه في سورة الانشراح ج 1، وقد أمر اللّه عباده على لسان رسوله بإقامة الدين والإسراع للتمسك فيه {قَبْل أَنْ يَأْتيَ يَوْم لا مَرَدَّ لَهُ منَ اللَّه} إذ لا يقبل فيه الرجوع إليه ولا التوبة ولا الفداء ولا الشفاعة المطلقة {يَوْمَئذٍ} يوم يحل ذلك اليوم العظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، حينئذ {يَصَّدَّعُونَ} 43 يتفرقون بعضهم عن بعض، والتصدّع تفرق أجزاء الأواني، واستعير لمطلق التفرق، قال تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراش الْمَبْثُوث} الآية 4 من القارعة في ج 1، أي أن أشخاص الناس تتفرق لشدة هول ذلك اليوم.
واعلموا أيها الناس أن {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْه كُفْرُهُ} هو يحمل وباله وحده {وَمَنْ عَملَ صالحًا فَلأَنْفُسهمْ يَمْهَدُونَ} 44 يوطئون لها ويبنون وهو عبارة عن معنى يستفاد من أفعال الخير التي سيراها صاحبها حسا، أولا في القبر، وثانيا في الجنة، كما يمهد الإنسان فراشه في الدنيا ليستريح عليه في مضجعه من كل ما ينغص نؤمه.
قال تعالى: {ليَجْزيَ الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحات منْ فَضْله} بأكثر مما عملوا لأنهم أحبابه، أما الذين عملوا السيئات فإنه يعاقبهم في ياره {إنَّهُ لا يُحبُّ الْكافرينَ} 45 لأنهم كرهوا الخير لأنفسهم فأبغضهم اللّه، لأن من لا يحبه يبغضه.
ثم عطف على الآيات من 20 إلى 25 المارة التي عدد فيها آثار نعمه على عبده تذكيرا لهم بأفضاله وحثا لهم على الإخلاص لحضرته، لأنه هو وحده المتفضل بها عليهم، فقال جل قوله: {وَمنْ آياته} الدالة على عظيم قدرته وبالغ حكمته {أَنْ يُرْسلَ الرّياحَ مُبَشّراتٍ} عباده بالغيث {وَليُذيقَكُمْ منْ رَحْمَته} ثمر الخصب المتسبب عنه {وَلتَجْريَ الْفُلْكُ بأَمْره} بسبب تلك الرياح، فتصلوا إلى مقاصدكم من البلاد والقرى والبوادي وغيرها {وَلتَبْتَغُوا منْ فَضْله} الأرباح في زروعكم وأثماركم وتجاراتكم برا وبحرا {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 46 نعمه المتوالية عليكم.
قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا منْ قَبْلكَ رُسُلًا إلى قَوْمهمْ} كما أرسلناك إلى هؤلاء، أي الموجودين على ظهر الأرضَ جاؤُهُمْ {بالْبَيّنات} على صدقهم كما جئتهم به أنت وكذبوهم كما كذبوكَ انْتَقَمْنا {منَ الَّذينَ أَجْرَمُوا} منهم وأنجينا المؤمنينَ كانَ {حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمنينَ} 47 بنا.
واعلم أن في الآية 103 من سورة يونس المارة والآيتين 171 و172 من سورة الصافات المارة أيضا والآية 21 من المجادلة الآتية في ج 3، وفي هذه الآية بشارة عظيمة لحضرة المصطفى صلّى اللّه عليه وسلم بالظفر والنصر على أعدائه، وفيها كفالة وعهد من اللّه تعالى على نفسه المقدسة بنصر المؤمنين وهو الموفي بعهده ووعده، القائم بكفالته، الصادق بما يخبر، وقد وفّى لرسوله ما تعهد به له ولأصحابه، وهذا الوعد عام لكل مؤمن ومؤمنة مستمر إلى يوم القيامة، وفيه أيضا وفي الحساب والقضاء، ولكن الناس لم يكونوا مؤمنين موقنين بالمعنى الذي يريده اللّه منهم كما كان عليه محمد وأصحابه، ولو كانوا كذلك ما سلب منهم نعمة الملك، ولم يسلط عليهم عدوهم ولجاءهم النصر من حيث لا يشعرون، وسخر لهم كل شيء، ولكن أين الإيمان وأين الإسلام كل منهما رسم بلا جسم، ومسمى بلا اسم، ودعوى بلا برهان، وقول بلا بيان، نعم انهم مسجلون رسميا مسلمين، وأعمالهم أعمال الكافرين، لا تراحم ولا توادد بينهم، ولا صلاة ولا صوم ولا حج ولا زكاة ولا صدقة بالمعنى الذي يريده اللّه منهم، ولكنهم زناة شربة خمر قذفة للمحصنات كذبة همّازون لمأزون محتالون شهداء زور وبهتة مغترون، فأنى ينظر اللّه إليهم، جاء في الحديث الشريف عن النبي صلّى اللّه عليه وسلم: لازلتم منصورين، ما دمتم متبعين سنتي فمتى اختلفتم سلط عليكم عدوكم، فإذا كان هذا جزاء ترك السنن فما بالك بالفرائض، وما بالك بارتكاب المحرمات، وما بالك بالتجاهر بالشرب واللعب واللواطة بلا خوف من اللّه ولا حياء من الناس، وإني أخشى أن يكونوا قد صاروا حثالة بالمعنى الوارد في قوله صلّى اللّه عليه وسلم يذهب الصالحون أسلافا الأول فالأول، حتى لا يبقى من الناس إلا حثالة كحثالة الثمر والشجر لا يبالي اللّه بهم.
رحماك ربي عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله يا أهل التقوى وأهل المغفرة.
ومما يدل على أن هذا الوارد في الآيتين المذكورتين نصر مستمر في الدنيا والآخرة ما رواه أبو الدرداء قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حتما على اللّه أن يرد عنه نار جهنم، ثم تلا هذه الآية، وأخرجه الترمذي بلفظ آخر بمعناه.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذي يُرْسلُ الرّياحَ فَتُثيرُ سَحابًا فَيَبْسُطُهُ في السَّماء كَيْفَ يَشاءُ} مسيرة يوم وأيام وأقل وأكثر خفيفا أو كثيفا {وَيَجْعَلُهُ كسَفًا} قطعا متفرقة أو يضم بعضه لبعض {فَتَرَى الْوَدْقَ} المطر {يَخْرُجُ منْ خلاله} من فرجه ووسطه {فَإذا أَصابَ به} بذلك الغيب {مَنْ يَشاءُ منْ عباده إذا هُمْ يَسْتَبْشرُونَ} 48 به لما يدره عليهم وعلى أنعامهم ودوابهم من الخيرات {وَإنْ كانُوا} أولئك العباد {منْ قَبْل أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهمْ} ذلك الغيث {منْ قَبْله} كرره تأكيدا للدلالة على بعد عهدهم به والأحسن عود هذا الضمير إلى الرياح، فيكون المعنى من قبل أن ينزل عليهم من قبل إرسال الرياح {لَمُبْلسينَ} 49 قانطين آيسين، لأنه بعد إرسال الرياح يعرف الخبير أن الريح فيها مطر أو ليس فيها، فإذا هبت الرياح قبل المطر لا يكون مبلسا بل يكون راجيا برؤية هيئة السحاب وهبوب الرياح {فَانْظُرْ} يا من يتأتي منك النظر {إلى آثار رَحْمَت اللَّه} وحسن تأثيرها في الأرض وفي قلوب الناس {كَيْفَ يُحْي} الإله القادر الرؤوف بخلقه {الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتها} بالنبات والأزهار والثمار {إنَّ ذلكَ} الإحياء للأرض بعد يبسها الذي هو بمثابة الموت لها وإحياء نباتها بعد جفافه بالمطر من قبل اللّه القادر على ذلك فإنه ولا ريب {لَمُحْي الْمَوْتى} كما أحيا الأرض الميتة {وَهُوَ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدير} 50 لا يعجزه شيء، قال تعالى: {وَلَئنْ أَرْسَلْنا ريحًا} ليبس الأرض وما عليها {فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا} بعد أن كان ذلك النبات أخضر يهتزّ {لَظَلُّوا منْ بَعْده يَكْفُرُونَ} 51 ما أسلفناهم من نعم الغيث ويجحدون نزوله كأنما لم نغثهم أبدا.
واعلم أنه لم يأت في القرآن لفظ المطر إلا للعذاب، والغيث إلا المرحمة، وقد بينا ما يتعلق بتفصيل هذا في الآية 22 من سورة الحجر فراجعها.
قال تعالى: {فَإنَّكَ} يا سيد الرسل {لا تُسْمعُ الْمَوْتى} قلوبهم {وَلا تُسْمعُ الصُّمَّ} المختوم على آذانهم {الدُّعاءَ} الذي ترشدهم به {إذا وَلَّوْا مُدْبرينَ} 52 عنك بظهورهم لأنهم إذا كانوا مقبلين إليك قد يفهمون بالإشارة والرمز {وَما أَنْتَ بهاد الْعُمْي عَنْ ضَلالَتهمْ} في هوّة هواهم {إنْ تُسْمعُ} ما تسمع {إلَّا مَنْ يُؤْمنُ بآياتنا} لأنهم مقبلون إليك بقلوبهم وأبصارهم مصغون بعقولهم وآذانهم، ينظرون لما تقوله بكليتهم {فَهُمْ مُسْلمُونَ} 53 لك منقادون مطيعون لأوامرنا التي تبلغهم إياها، فاترك أمثال أولئك واعرض عنهم ولا تحزن عليهم لأنهم في حكم الموتى واحرص على هؤلاء فإنهم هم المنتفعون بوعظك ونصحك.

.مطلب في سماع الموتى وتلقين الميت في قبره وإعادة روحه إليه والأحاديث الواردة بذلك:

هذا، وقد استدل بعض الحكماء بهذه الآية على أن الأموات لا يسمعون، وأيدها بقوله تعالى: {وَما أَنْتَ بمُسْمعٍ مَنْ في الْقُبُور} الآية 22 من سورة فاطر ج 1، وهذا القائل توصل بقوله هذا إلى عدم تلقين الميت في القبر إذ لا فائدة له منه، وقال لو حلف لا يكلم فلانا فكلمه ميتا لا يحنث لأنه ليس بأهل للكلام ولا للسماع.
وحكى السفارينى في البحور الزاخرة أن عائشة رضي اللّه عنها ذهبت إلى نفي السماع وذلك أنه جاء في صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت ذهل ابن عمر إنما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله يبكون عليه الآن، قالت وذلك مثل قوله أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم يسمعون ما أقول، إنما قال إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقول لهم حق، ثم قرأت الآيتين، ورجح هذا القاضي أبو يعلى من أكابر الحنابلة في كتابه الجامع الكبير، مستدلين بالآيتين المذكورتين وشبهها مما في القرآن العظيم.
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنهم يسمعون وهو اختيار ابن جرير الطبري وابن قتيبة وغيره، وقال ابن عبد البر: إن الأكثرين على هذا، واستدلوا بما جاء في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي اللّه عنهما قال:
لما كان يوم بدر وظهر عليهم على المشركين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا، وفي رواية أربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى بئر من اطواء بدر وأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا، فقال عمر رضي اللّه عنه يا رسول اللّه ما تكلم من أجساد لا أرواح لها؟! فقال والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم.
زاد في رواية لمسلم عن أنس: ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا.
وبما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى انه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا الرجل يعني محمدا صلّى اللّه عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد اللّه ورسوله، فيقال أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعا ويفسح له في قبره سبعون ذراعا، وتملأ عليه خضرا إلى يوم القيامة، وأما الكافر. إلخ.
وبما رواه الطبري في الكبير عن أبي أمامة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب فليقم أحدكم على رأس القبر ثم ليقل يا فلان بن فلانة، فإنه يقول أرشدنا يرحمك اللّه، ولكنكم لا تسمعون. إلخ.
وبما أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال: كانت امرأة بالمدينة تقم المسجد فماتت، فلم يعلم بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فمر على قبرها فقال ما هذا القبر؟